شرح القاعدة الفقهية: الكتاب كالخطاب مع مثال

محامي في المانيا

الكتاب كالخطاب

إن اللفظ ليس هو الوحيد المعبر عن الرضا وإن كان هو المعبر الأول عنه، فهنالك الفعل والكتابة والإشارة وكلها معبر عن الرضا، وقد أخذ الفقهاء بها جميعاً وأحلوها محل الرضا في كل ما هو شرط له، إلا أن لذلك قيوداً وأحكاماً :

أ ـ الفعل كالقول عند الحنفية في نيابته عن الرضا، ولهذا أجازوا البيع وسائر المعاوضات بالتعاطي إلا النكاح فإنه لا ينعقد بالتعاطي لاشتباهه بالزنا.

ب – أما الكتابة والإشارة فهما بدل ضروري عن القول عند الحنفية، ولهذا لا يؤخذ بهما في النيابة عن الرضا إلا عند تعذر القول وفقاً لقاعدة: (لا عبرة بالبدل مع القدرة على الأصل)، فتعتبر كتابة الأخرس وإشارته نائباً عن الرضا في كل تصرفاته القولية.

أما القادر على الكلام . فلا يحتج بكتابته إلا إذا تعذر الكلام منه في أحوال خاصة كالغيبة عن مجلس العقد، فحينئذ يجوز إحلال كتابه محل خطابه فيكتب كتاباً يبين فيه رغبته في العقد، فإذا وصل إلى المرسل إليه ووافق وقبل تم العقد وإلا فلا.

أما الحاضر فلا يحل كتابه محل خطابه، علماً أنه لا يوجد من صرح من الفقهاء الحنفية بذلك تصريحاً واضحاً، وإن كان مضمون كلامهم يفيد به. 

وهذه القاعدة مما أطلق وأُريد به المقيّد، فيكون المراد منها : الكتاب عند تعذر الخطاب كالخطاب.

ويصح النكاح بالكتابة وصورته أن يكتب إليها يخطبها فإذا بلغها الكتاب أحضرت الشهود وقرأته عليهم وقالت: زوَّجت نفسي منه، أو تقول : إن فلاناً كتب يخطبني فاشهدوا أني قد زوَّجت نفسي منه.

أما لو لم تقل بحضرتهم شيئاً سوى زوجت نفسي من فلان لا ينعقد؛ لأن سمـاع الـشـطـريـن شرط، وبإسماعهم الكتاب أو التعبير عنه منها سماع للشطرين بخلاف ما إذا انتفيا .

فالمراد بالكتاب في هذا المقام هو الخطاب الذي تكتب فيه عبارة الإيجاب من أحد العاقدين للآخر. 

وإن كتب: امرأته طالق، فهي طالق، بعث إليها أو لا.

وإن قال : المكتوب إذا وصل إليك فأنتِ طالق فلم يصل، لا تطلق . وإن ندم ومحا من الكتاب ذكر الطلاق وترك ما سواه وبعث إليها فهي طالق إذا وصل؛ لأن محوه للطلاق كرجوعه عن التعليق إذا بقي ما يسمى كتابة أو رسالة، وإن محا الخطوط كلها وبعث إليها البياض لا تطلق لأن ما وصل إليها ليس بكتاب.

ولو جحد الزوج الكتاب وأقامت البينة عليه أنه كتبه بيده فرّق بينهما في القضاء. 

إن اعتبار مجلس بلوغ الكتاب إنما يظهر فيما يتوقف على القبول كالعقود وفيما يقتصر على المجلس من غير العقود كتفويض الطلاق، أما فيما يتوقف على العلم فقط كالوكالة فلا يظهر تقييده بالمجلس، بل يكفي فيه الاطلاع على ما في الكتاب، وأما فيما لا يفتقر إلى الاطلاع مما يستقل به الإنسان كالإقرار والطلاق والإبراء، كما إذا كتب إلى زوجته كتاباً يقول لها فيه: أنتِ طالق، فلا حاجة إلى الاطلاع بل لا حاجة إلى الإرسال أيضاً، ويقع الطلاق بمجرد الكتابة نوى أو لم ينو إذا كانت مرسومة وكذلك لو كتبت : أبرأت زوجي من مؤجل صداقي صح الإبراء وسقط المهر بمجرد الكتابة، على الظاهر.

الفرق بين الكتاب والخطاب أنهما سواء إلا في فصل واحد وهو أنه لو كان حاضراً فخاطبها بالنكاح فلم تجب في مجلس الخطاب ثم أجابت في مجلس آخر فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا أبلغها وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوّجت نفسها في مجلس آخر فإن النكاح لا يصح، وفي (الكتاب) إذا بلغها وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح؛ لأن الغائب إنما صار خاطباً لها بالكتاب والكتاب باقٍ في المجلس الثاني، فصار بقاء الكتاب في مجلسه وقد سمع الشهود ما فيه في المجلس الثاني بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في المجلس. 

 إذا كتب الكتاب في زماننا على غير الورق مثلاً ، ينظر : إذا كان المعتاد أن تكتب الكتب على غير الورق يعتبر ذلك الكتاب كما لو كتب على ورق،

والحاصل أن كل كتاب يحرر على الوجه المتعارف بين الناس حجة على كاتبه كالنطق باللسان، وهو ما يعرف بالكتابة المرسومة. أما الكتاب المكتوب على غير ما هو متعارف بين الناس، كأن يكون على حائط أو ورق شجر أو بلاطة مثلاً، فهو لغو ولا يعتبر حجة في حق صاحبه إلا إن نوى أو أشهد على نفسه حين الكتابة،

والإملاء يقوم مقام الإشهاد أيضاً؛ لأن الكتابات التي تكون على هذه الصورة قد تكون بقصد بيان الحقيقة وقد تكون بقصد التجربة كما هو الغالب، وقد تكون عبثاً، فتحتاج إلى ما يؤيدها كالنية أو الإشهاد أو الإملاء حتى تعتبر حجة على كاتبها، وهو ما يعرف بالكتابة غير المرسومة المستبينة. أما الكتابة غير المستبينة كالكتابة على الماء أو في الهواء، حكمها حكم الكلام غير المسموع لا يترتب على كاتبها حكم. 

ومن فروع هذه القاعدة أيضاً : رجل كتب صك وصية وقال للشهود: اشهدوا بما فيه، ولم يقرأ وصيته عليهم، لا يجوز للشهود أن يشهدوا بما فيه وهو الصحيح، وإنما يحلّ لهم أن يشهدوا بأحد معانٍ ثلاثة :

١ ـ أن يقرأ كتاب الوصية عليهم.

2ـ أن يكتب هو بين يدي الشاهد والشاهد يعلم بما فيه، ويقول هو: اشهدوا عليَّ بما فيه .

3ـ أن يكتب الكتاب غيره ويقرأه عليه بين يدي الشهود، ويقول لهم: اشهدوا عليَّ بما فيه .

ومنها : لو كتبت : أنتِ طالق ثم قالت لزوجها أقرأ علي؟ فقرأ، لا تطلق ما لم يقصد خطابها . 

Scroll to Top