الوسم: مستشار قانوني

  • هل يشكل الاستيلاء على الأشياء المباحة أو المتروكة أو الضائعة جرم السرقة؟

    لا يكفي لاعتبار الشخص سارقاً أن يكون الشيء المسروق غير مملوك له، وإنما يجب فضلا عن ذلك أن يكون الشيء مملوكاً لشخص أخر عند الاستيلاء عليه.

     يبني على هذا أن الأشياء التي لا مالك لها لا تكون محلا للسرقة، وهي الأشياء المباحة والمتروكة.

    أما الأشياء التي خرجت من حيازة أصحابها ماديا ولكنها بقيت في ملكيتهم تكون محلاً للسرقة، وهي الأشياء المفقودة أو الضائعة.

    1- الأشياء المباحة والمتروكة

    – الشيء المباح هو الشيء الذي لا مالك له، ولم يكن في وقت مملوك لأحد، والاستيلاء عليه سبب من أسباب کسب الملكية يقره القانون ويرتب عليه آثاره. فالماء والكلأ، والحيوان في الغاب أو الصحراء، والسمك في الماء، والطير في الهواء، كلها أشياء مباحة إذا سبقت إليها يد إنسان فحازها ملكها، فإذا استولى عليها شخص أخر منه كان فعله سرقة.

    ولكن الطيور المستأنسة والحيوانات الأليفة لا يسري عليها هذا الحكم، فهي لا تعتبر مالاً مباحاً ولو خرجت من يد صاحبها، لأن حق الملكية يلازمها، وإنما يسري عليها حكم الأشياء المفقودة أو الضائعة.

    وكذلك لا تعتبر أموالاً مباحة المال العام أو الخاص المملوك للدولة، مثل الشوارع والساحات والحدائق العامة والأبنية الحكومية والآثار.

     فهذه جميعها تصلح محلا لجرم السرقة. كمن يستولي على إحدى الأوابد التاريخية.

     – أما الأشياء المتروكة، فهي المنقولات التي يتخلى عنها مالكها بقصد النزول عن ملكيته. مثالها ما يفرغه المتعهدون من الأتربة أو بقايا تعهدات البناء، أو الأشياء التي يلقيها أصحابها في الحاويات، أو يضعونها أمام منازلهم كي يتلقفها أشخاص بحاجة إليها، كأدوات منزلية أو كهربائية أو ملبوسات أو بقايا طعام.

     فهذه أشياء لا يشكل أخذها سرقة، باعتبار أن مالكها قد تخلى تماما عن ملكيته لها، وأصبحت بحكم الأشياء المباحة التي لا مالك لها.

    2- الأشياء الضائعة والكنز

    إن الاختلاف واضح بين الأشياء المياحة والمتروكة وبين الأشياء الضائعة أو المفقودة.

     فالأولى لا مالك لها، بينما  الثانية فملكيتها ثابتة لصاحبها . فضياع المال لا ينهي ملكية من ضاع منه، فهو فقد حيازته المادية للمال مع بقائه قانونا مالكة له.

    ويبني على ذلك أن مالك المال المفقود له الحق قانوناً باسترداد ماله ممن يوجد بين يديه ولو كان قد اشتراه من الغير بحسن نية.

    لكن هل يعتبر من التقط مالاً مفقوداً واحتفظ به سارقا له؟

    في الواقع إن السرقة هي اعتداء على الملكية وعلى الحيازة.

     فقد يسرق المال ليس من يد مالكه بل من يد حائزه فقط، كما لو سرق المال المؤجر أو المعار أو المودع…

    والسرقة تفترض نشاطاً إيجابياً من السارق ينقل بواسطته المال من حيازة إلى حيازة.

    أي ينهي حيازة الحائز وينشئ للمال حيازة جديدة.

     ففيما يتعلق بالمال المفقود، أو اللقطة كما يطلق عليها المشرع السوري، فإن ملتقط المال لم يقم بأي نشاط إيجابي ينهي به حيازة المالك وينشأ لنفسه أو لغيره حيازة جديدة كي يعتبر سارقاً. والشيء المفقود لم يعد في حيازة أحد، ومن ثم لا يتحقق بالاستيلاء عليه الاعتداء على حيازة الغير الذي تفترضه السرقة.

     وما قلناه يصح أن يقال أيضاً في الكنز، فالكنز، الذي لم تثبت ملكيته لأحد، هو ملك مشترك بين مالك العقار الذي وجد به، ومكتشفه ولو لم يكن مالكة للأرض المدفون بها الكنز، والدولة.

    وعليه فمن يكتشف کنزا فيستولي عليه كاملا، فهو بذلك يعتدي على ملكية غيره، ولكنه لا يعتدي على حيازة غيره، فالكنز ليس في حيازة أحد.

     لذلك أخرج المشرع السوري هاتين الصورتين من الاستيلاء على مال الغير من نطاق السرقة، واعتبرها جريمة خاصة ملحقة بإساءة الائتمان وليست إساءة ائتمان، وفق المادة 659 من قانون العقوبات التي تنص على أن:

    “1- كل من استملك أو اختلس أو رفض أن يرد أو كتم لقطة أو أي شيء منقول دخل في حيازته غلطاً أو بصورة طارئة أو بقوة قاهرة، يعاقب بالحبس حتى سنة وبغرامة….

    2- تسري أحكام هذه المادة على من أصاب کنزاً بما يتعلق بالنصيب العائد لغيره”.

  • ركن جريمة السرقة بأن يكون محل السرقة مالاً

    يشترط أن يكون الشيء محل الأخذ مالاً.

    والمال هو كل شيء يصلح لأن يكون محلا لحق الملكية، ما لم يكن خارجا عن التعامل بطبيعته، أي لا يقبل بطبيعته أن يكون محلا لحق الملكية .

    و الشيء الذي يخرج بطبيعته عن العامل هو الشيء المباح كمياه البحار والأنهار، و الهواء في الجو، والسمك في الماء والطيور في الهواء.

    بيد أنه إذا تحددت هذه الأشياء، فإنها تصلح محلا للاستئثار بها، فتصبح أموالاً.

     كما لو احتجز شخص كمية من ماء البحر في وعاء لغاية ينتفع بها، وتعرض هذا الوعاء للأخذ، يعتبر الفعل سرقة.

    – هل يصلح الإنسان محلاً لجرم السرقة؟

    إن الإنسان ليس مالا ولا يقبل بطبيعته أن يكون محلا لحق الملكية، فهو صاحب الحق وليس محله. و على ذلك فإن خطف فتاة أو طفل لا يعد سرقة بل جريمة خطف.

    كما أن حقوق الإنسان المرتبطة بشخصه، کشرفه وحريته، لا تصلح محلا للسرقة. فمن يسلب أخر حريته لا يعد سارقا لها، وإن كان يرتكب جريمة أخرى بنظر القانون. .

     وإذا كان الإنسان لا يعتبر مالا بحكم القانون، فإن الأشياء المنفصلة عنه والمتجردة من صفة الأدمية، كشعره أو دمه أو أسنانه، تصبح مالاً صالحاً لأن يكون محلاً لجرم السرقة.

     فالمرأة يمكنها أن تقص شعرها وأن تبيعه أو تتعامل به بأي طريقة بوصفه مالاً.

    فإذا تعرض للأخذ دون رضاها اعتبر الفعل سرقة.

     ويأخذ حكم الأشياء المنفصلة عن الجسم، الأطراف والأعضاء الصناعية التي يستخدمها الإنسان بدلا من أطرافه وأعضائه الطبيعية.

    فهي لا تعد جزءا من الإنسان بالرغم من أدائها لوظائف الأعضاء الطبيعية. لذلك تظل معتبرة على أصلها ما صالحاً لأن يكون محلا للسرقة.

    كمن يأخذ طقم أسنان صناعية لغيره، أو شعر مستعارة تضعه امرأة على رأسها.

     وإذا مات الشخص تزول عنه صفة الإنسان وتصبح جثته بمجرد موته مالا إذا أودعت في متحف بسبب قيمتها التاريخية أو العلمية.

    فالاستيلاء على مومياء من متحف يعتبر سرقة كون الجثة مملوكة للمتحف.

     إلا أن الإشكالية تظهر في الاستيلاء على جثة ميت من المقبرة.

     فجثث الأموات في المدافن لا تكون مملوكة لأحد، والاستيلاء عليها لا يعد سرقة، وإن كان القانون يحميها بنصوص خاصة، كجريمة انتهاك حرمة ميت.

    – هل تصلح الأشياء الخارجة عن التعامل بحكم القانون محلاً لجرم السرقة؟

     إن الأشياء الخارجة عن التعامل بحكم القانون هي الأشياء التي ينكر عليها القانون المدني صفة المال، وبالتالي يحظر التعامل بها كالمخدرات والنقود المزيفة والأسلحة غير المرخصة.

    إلا أن موقف القانون الجزائي في هذه الحالة يختلف عن موقف القانون المدني.

     فقانون العقوبات في السرقة يدخل هذه الأشياء ضمن طائفة الأموال، وبالتالي تصلح محلاً للسرقة.

     وعليه فإن أخذ مخدرات دون رضاء حائزها يعد سرقة.

     ويفسر الاختلاف بين نظرتي القانون المدني وقانون العقوبات أن الأول ينظم التعامل بين الأفراد فينفي صفة المال عما لا يجيز التعامل فيه.

     أما قانون العقوبات فيحمي الحق لذاته ولو كان الفرد لا يصلح لاكتسابه و إنما كانت الدولة وحدها هي ذات الصلاحية لذلك، بل ولو كان من غير الجائز التعامل فيه بحكم القانون. فمصير هذه الأشياء هو المصادرة أي صيرورتها ملكا للدولة.

     بالنتيجة ما لا يعد مالاً في القانون المدني قد يعد كذلك في قانون العقوبات.

     – والمال يصلح لأن يكون محلاً للأخذ في جريمة السرقة سواء كان سند حيازته مشروعاً أو غير مشروع.

     فسواء كان المال لدى المالك أو لدى حائز له حيازة ناقصة كالمستعير أو المستأجر، أو كان لدى سارق له، فإن أخذه بدون رضاء مالكه أو حائزه يعتبر سرقة، لأن المال المسروق له مالك، فضلا عن توافر صفة المال فيه.

    – والمال لابد أن تكون له قيمة، أي متقوماً .

     أما إذا لم تكن له أية قيمة فتنتفي عنه صفة المال، ولا يصلح بالتالي محلا للسرقة. كما هو حال أحجار الطريق أو أعقاب السجاير أو قشر البيض.

     وما دام المال متقوماً فلا أهمية بعد ذلك لقيمته كبرت أم صغرت.

     فتفاهة الشيء المسروق لا تأثير لها في قيام السرقة ما دام هو في نظر القانون مالاً.

    علما أن المشرع السوري جعل من تفاهة المال المسروق سبباً لتخفيف عقوبة السرقة.

    بيد أن هذه القيمة لا يشترط أن تكون مادية، أي مالية يعبر عنها بمبلغ من النقود، وإنما يكفي أن يكون للشيء قيمة معنوية أو عاطفية لدى صاحبه.

    فالخطابات الشخصية والصور والتذكارات، كخصلة شعر شخص عزيز، تصلح أن تكون محلاً للسرقة طالما أن لها قيمة معنوية أو عاطفية في نظر صاحبها .

     فالعبرة في ثبوت القيمة للشيء من عدمها هي بتقدير صاحبه، فالشیء قيمته أساساً من نظرة صاحبه إليه.

     ولا بد ن يراعى عما إذا كان الشيء ذا قيمة أو عديم القيمة التاريخ أو الوقت الذي تم به فعل الأخذ. فهذا الوقت هو الذي يعتد به.

     فإذا لم يكن للشيء أية قيمة عند أخذه ثم أصبح بعد ذلك ذو قيمة، لأي سبب كان، فهذا التحول لا يغير من طبيعة الأمر شيئاً ولا يجعل الاستيلاء عليه سرقة.

  • أنواع الخطأ في جريمة القتل والايذاء غير المقصود

    أنواع الخطأ

    أولاً – وحدة الخطأ الجزائي والخطأ المدني.

    تنص المادة 164 من القانون المدني بأن:

    كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض”.

     والخطأ في القانون المدني أيا كانت درجة جسامته كاف لنشوء المسئولية التقصيرية ( غير العقدية ).

    أما الخطأ في القانون الجزائي فلقد حدده المشرع حصرا في ثلاث صور: الإهمال – قلة الاحتراز – عدم مراعاة القوانين والأنظمة.

    والمسألة التي تثار هنا:

    هل يعتمد في نطاق المسئولية الجزائية ذات القاعدة المطبقة في القانون المدني بالنسبة للمسئولية المدنية، معتبرين الفاعل مسئولا عن القتل أو الإيذاء لمجرد ارتكابه خطأ، أم يشترط أن يكون الخطأ الجزائي على درجة معينة من الجسامة؟

    في الحقيقة أن الخطأ الجزائي لا يختلف عن الخطأ المدني، وأي خطأ يرتب المسئولية المدنية يرتب في نفس الوقت المسئولية الجزائية.

     وليس في التشريع السوري ما يشير صراحة أو ضمنا إلى استلزام درجة معينة من الخطأ.

     وصور الخطأ الواردة في قانون العقوبات، وإن كان ظاهرها فيه معنى الحصر والتخصيص، فهي بالواقع تتسع لتشمل كل خطأ أيا كانت صورته وأيا كانت درجته.

    وقانون العقوبات لا يعلق العقاب على درجة جسامة الخطأ وإنما على حصول نتيجة معينة يرى فيها من الجسامة ما يستدعي تجريمها .

     و الفرق بين القانون المدني وقانون العقوبات منحصر في أن القانون المدني يعتبر الضرر أيا كانت صورته، أما قانون العقوبات فلا يهتم إلا بأنواع معينة من النتائج الضارة غير المقصودة أوردها على سبيل الحصر، أي الجرائم التي يعاقب عليها بصورتها غير المقصودة.

     أما الخطأ فلا يتغير في المسئوليتين الجزائية والمدنية، لذا يجب أن يعاقب على الخطأ مهما كانت درجته ومهما خفت جسامته.

    وتجدر الإشارة إلى أنه إذا لم يكن لدرجة الخطأ من اعتبار في قيام المسئولية عن الجريمة غير المقصودة فإن لها قيمتها عند تقدير العقوبة.فالقاضي في حدود سلطته التقديرية في مراوحة العقوبة بين حديها الأدنى والأعلى أن يدخل درجة الخطأ في حسابه، فيعاقب مثلا على الخطأ الواعي بأشد مما يعاقب به على الخطأ غير الواعية.

    ثانياً- الخطأ الشخصي والخطأ المفترض

    إن السؤال الذي يثار هنا يتمثل بالشكل التالي:

    مادام هناك وحدة بين الخطة الجزائي و الخطأ المدني فهل يعني ذلك بالضرورة أنه إذا حكم بالبراءة في الدعوى الجزائية لانتفاء الخطأ الجزائي تنتفي بالتالي إمكانية الحكم للمتضرر بالتعويض لانتفاء الخطأ المدني؟

    إن الإجابة على ذلك تقتضي التمييز بين الخطأ الشخصي والخطأ المفترض في مجال المسئولية المدنية.

     فالتسوية بين المسئولية الجزائية والمسئولية المدنية لا تكون إلا في صورة الخطأ الشخصي، والقانون الجزائي لا يرتب المسئولية الجزائية إلا على أساس الخطأ الشخصي، ولا يسأل الإنسان عن عمله ما لم يثبت عليه ارتكاب خطأ شخصي.

     ففي هذه الحالة يستوي الخطأ الجزائي والخطأ المدني، فإذا حكمت المحكمة ببراءة المدعى عليه، ولم يثبت عليه خطأ شخصية، انتفت إمكانية الحكم عليه بالتعويض المتضرر.

    بيد أن المسئولية في الحقوق المدنية لا تبنى فقط على أساس الخطأ الشخصي، بل تبني أيضا على أساس الخطأ المفترض.

     وهي المسئولية الملقاة على عاتق حارس الحيوانات أو الجوامد، کالأبنية والآلات الميكانيكية وسائر الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة، بالتعويض عما يحدثه الحيوان أو تحدثه هذه الأشياء أو ما ينشأ عن انهدام البناء من أضرار.

     فالمسئولية المدنية هنا مفترضة قانوناً ولا يستطيع الشخص التخلص منها إلا إذا استطاع إثبات أن الحادث أو الضرر قد وقع لسبب أجنبي لا يد له فيه.

    إذن عندما يفترض القانون المدني الخطأ فلا مجال للقول بوحدة الخطأ الجزائي والمدني، لأن القانون الجزائي ليس فيه خطأ مفترض، ولا تبنى المسئولية الجزائية إلا على أساس الخطأ الشخصي.

     بالنتيجة نستخلص أنه في الحالات التي يفترض القانون المدني الخطأ لا يكون هناك تناقض بين الحكم الجزائي بالبراءة والحكم المدني بالتعويض استنادا على المسئولية المفترضة.

     والعلة في ذلك أن أساس الحكمين يختلف، فبينما لا يجد القاضي الجزائي خطأ شخصية ليحكم بالتعويض، يجد القاضي المدني خطأ مفترضا لم يثبت المدعى عليه عكسه.

    وقد قلنا القاضي المدني لأن المحاكم الجزائية لا تختص بنظر دعوى التعويض عندئذ، إذ هي لا تختص إلا بنظر الدعوى المدنية المتفرعة عن الجريمة.

    وتطبيقاً لذلك يمكن صدور حكم ببراءة صاحب السيارة لانتفاء الخطأ لديه، ثم يقضى عليه بتعويض مدني استنادا للمادة 179 من القانون المدني، وهي المادة التي تجعل حارس الألة مسئولا عما تحدثه من ضرر ما لم يثبت أن وقوع الضرر كان لسبب أجنبي لا يد له فيه.

    ثالثاً- الخطأ العادي والخطأ المهني

    إن الخطأ العادي هو الخطأ العام الذي يرجع إلى مخالفة واجب الحيطة والحذر في الأمور المتعلقة بجميع الناس.

    أما الخطأ المهني فهو الذي يرتكبه من يزاول مهنة من المهن، کالأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين.

     هناك اتجاه فقهي وتشريعي يعول على التمييز، في معرض الخطأ المهني، بين الخطأ اليسير والخطأ الجسيم. بتقرير المسئولية في الأخير وانتفاءها في الأول.

    وغالبا ما يطرح هذا الموضوع في شأن مسئولية الأطباء، حيث يرى هذا الاتجاه أن الطبيب يسأل جزائيا عند ارتكابه خطأ مهني جسیما يؤدي إلى وفاة المريض أو إيذائه.

    أما إذا كان هذا الخطأ يسيرة، أي قليل الأهمية والضرر، فتنتفي مسئولية الطبيب.

     وحجة هذا الاتجاه هي ضرورة إعطاء الأطباء حرية في عملهم ومنحهم طمأنينة وضمانة تكفل لهم متابعة المكتشفات الحديثة والاستفادة منها، وعدم مساءلتهم عن الأخطاء إذا كانت بسيطة حتى لا تضعف همتهم، ولا تقعدهم الخشية من المسئولية عن متابعة تطورات البحث العلمي.

    أما معيار الخطأ الجسيم فهو غير محدد، ويمكننا القول بأنه الخطأ غير المعتاد الناتج عن الجهل الفاضح أو التهور الزايد أو القيام بالعمل في حالة المرض أو في حالة السكر.

    ومثالها أن يجري الطبيب عملا جراحية دقيقة وهو في حالة سكر.

     إلا أن الاتجاه الغالب اليوم تشريعا وقضاء وفقه يقوم على أساس عدم التفرقة بين الخطأ اليسير والخطأ الجسيم، و اعتبار أن مسئولية الأطباء تخضع للقواعد العامة، فتبنى على أي خطأ مهما كان نوعه، سواء كان خطأ مهنيا أم غير مهني، جسيمة أم يسيرا، فلا ينبغي أن يتمتع الطبيب بأي استثناء ، فبمجرد أن تتوفر في سلوكه عناصر الخطأ يعتبر مسئولا عن النتيجة الحاصلة، ووجود الخطأ يعود تقديره للقضاء مستعينا برأي الخبرة المختصة.

    رابعاً- مساهمة أكثر من شخص في الخطأ

    عندما تقع الوفاة أو الإيذاء نتيجة خطأ الفاعل وحده، تتشكل لدينا الصورة العادية لجريمة القتل والإيذاء خطأ، ويعتبر المخطئ هنا فاعلا للجريمة، ويسأل عن النتيجة الحاصلة من موت أو إيذاء.

    إلا أن الوفاة أو الإيذاء قد ينشأ أحيانا نتيجة عدة أخطاء يرتكبها أكثر من شخص، وقد يشارك المجني عليه أيضأ بخطئه في حصول النتيجة الجرمية.

     ففي هذه الفرضيات يثور التساؤل عن مسئولية هؤلاء الأشخاص.

    فبفرض أنك أعرت سيارتك إلى صديقك وأنت تعلم عدم حيازته لرخصة قيادة، أو ضعف بصره الشديد، فيصدم الصديق أحد الأشخاص فيقتله أو يؤذيه.

     فتكون أنت وصديقك مسئولان كفاعل وشريك عن جريمة القتل أو الإيذاء الخطأ، لأن كل منكما قد شارك بخطئه في حصول النتيجة الضارة.

     ولا يمكن القول أن خطأ الصديق ينفي المسئولية عن خطأك ، فكل منكما ساهم بخطئه في ارتكاب الجريمة.

     وبفرض أن الوفاة قد نتجت عن سلوك شخص عديم الأهلية، ولكن نتيجة خطأ ارتكبه شخص أهل للمسئولية، فلا عبرة بتاتا هذا الكون القاتل مجنونة أو طفلا غير مميز، ويبقى الشخص الأخر مسئولاً كفاعل أو شريك لجرم القتل الخطأ، ما دام قد ثبت أنه ارتكب خطأ أدى بالنتيجة لحصول الوفاة.

    والمثال على هذه الفرضية يتمثل بترك رب الأسرة لسلاحه في مكان مكشوف، دون أن يحتاط ويخفيه، فيجده ابنه الصغير ويعبث به فتنطلق منه رصاصة قائلة تصيبه أو تصيب أحد أفراد الأسرة.

    أو تسليمه سلاحه لطفله ليعبث به ظانا أنه فارغ من الطاقات في حين أنه نسي إفراغ الرصاصة الأخيرة من مخزن المسدس فتنطلق هذه الرصاصة وتقتل أحدهم.

     فالأب في الحالتين يعتبر مسئولاً عن قتل غير مقصود نتيجة لخطأه، ولو لم يكن لنشاطه صلة مادية مباشرة بالنتيجة الضارة، ما دام إهماله في إخفاء السلاح أو تسليمه لطفله هو الذي أدى بالنتيجة لاستعمال السلاح من قبل الطفل وحصول الوفاة.

    – والمسألة التي تثار في هذا الصدد تتعلق بقواعد المساهمة الجرمية.

     فلقد رأينا أن مفهوم الخطأ في القتل والإيذاء لا يتناول فقط الفاعل المادي للجريمة غير المقصودة، بل يشمل إضافة إليه أشخاص لم يقوموا بتلك الأفعال المادية، بل ارتكبوا أخطاء ساهمت بشكل غير مباشر في حصول الوفاة أو الإيذاء. واستنادا لذلك أمكننا اعتبار مرتكب الفعل المادي والمساهم المخطئ بمثابة فاعلين وشركاء في الجريمة.

    وهناك اتجاه فقهي حاول التمييز، بهذا الصدد، استنادا إلى طبيعة الدور الذي قام به الشخص المخطئ ليصل بالنتيجة إلى القول بإمكانية وجود متدخل في الجرائم غير المقصودة إذا كان الدور الذي قام به هذا الشخص ثانويا.

     وهناك اتجاه فقهي أخر، وهو ما نؤيده، يرى عدم إمكانية تصور التدخل في الجرائم غير المقصودة لأن طبيعة هذه الجرائم لا تسمح بوجود تدخل فيها.

    فالتدخل في جريمة يتطلب توافر قصد مساعدة الفاعل على تنفيذ الجريمة، والقصد الجرمي يعتبر ركنا من أركان التدخل.

    ولما كان القصد الجرمي منتفية في الجريمة غير المقصودة، فهو منعدم بالنسبة للفاعل الأصلي، فلا يتصور توافرة، تبعا لذلك لدى المتدخل.

     فإما أن يثبت أن الشخص ساهم بخطئه في إحداث الموت أو الإيذاء، عندئذ يعتبر فاعلا أو شريكاً لا متدخلا، مهما كان الدور الذي قام به رئيسيا أم ثانوية.

     وإما أن لا يثبت أنه قام بما يمكن اعتباره مساهمة في الخطأ المفضي إلى الموت أو الإيذاء، و عندئذ لا يغدو فاعلاً أو شريكاً أو متدخلاً، وتنعدم مسئوليته استنادا لذلك.

    من هنا يمكننا القول أن كل مساهمة في خطأ ينشأ عنه موت أو إيذاء يعتبر المساهم بموجبه فاعلاً أو شريكاً وليس متدخلاً.

    ولا وجه للتمييز بين الدور الذي قام به المخطئ رئيسياً كان أم ثانوياً.

    فما دام خطأه قد ساهم بإزهاق الروح أو الإيذاء فهو يعتبر فاعلاً أو شريكاً لا متدخلاً.

    – وقد يساهم المجني عليه في الخطأ فتقع الوفاة أو الإيذاء نتيجة تضافر خطأه مع خطأ الفاعل. والقاعدة في ذلك أنه لا مقاصة بين الأخطاء في التشريع الجزائي، ويظل كل خطأ مستقلاً عن الأخر، ويبقى الفاعل مسئولا عن النتيجة مهما بلغت ضألة نسبة الخطأ لديه.

    فسائق السيارة الذي يقود سيارته بسرعة عادية ويصدم شخصا خالف نظام السير بقطع الطريق من مكان غير مخصص للمشاة فيقتله، يعتبر مسئولا عن قتله إذا توافرت في فعله عناصر الخطأ، لأن من واجبه تفادي المشاة حتى ولو خالفوا نظام السير.

     وبالرغم من أن خطأ المجني عليه لا يخلي الفاعل من المسئولية الجزائية فهو يكون محل اعتبار عند تقدير العقوبة والتعويض، فكلما كانت نسبة خطأ المجني عليه كبيرة كان القاضي أن يخفف عقاب الفاعل والتعويض المدني الذي يفرضه عليه.

     إلا أنه إذا كان المجني عليه قد تسبب بخطئه وحده في حصول النتيجة، ولم يثبت على الفاعل أي خطأ فلا مسئولية جزائية عليه.

    – وقد تقع الوفاة أو الإيذاء نتيجة لخطأ شخصين،

    بحيث يصيب كل منهما الآخر. والقاعدة في ذلك أنه يجب التمييز بين المسئولية المدنية والمسئولية الجزائية.

    أما المسئولية المدنية فتوزع بينهما استنادا لنسبة خطأ كل منهما.

    فعند وقوع تصادم بين سيارتين، مؤدية لإيذاء كلا السائقين، وحدد خطأ الأول بثمانين بالمائة والثاني بعشرين بالمائة، ينظر القاضي عند تحديد التعويض إلى هذه النسبة ويفرض تعويضا على صاحب النسبة الأعلى أكثر من صاحب النسبة الأدني.

    أما المسئولية الجزائية فهي لا توزع كونها لا تقبل التجزئة، فيبقى كل منهما مسئولا جزائيا عن إصابة الأخر ويلاحق استنادا إلى خطورة الإصابة اللاحقة بالأخر وليس استنادا إلى نسبة الخطأ الذي ارتكبه كل منهما.

     ففي المثال السابق عن تصادم السيارتين، إذا أدى التصادم إلى إصابة السائق الأول بالعمى، أما السائق الأخر فكانت إصابته خفيفة ولم تؤدي إلى أبي تعطيل عن العمل، إلا أن الخبرة حددت نسبة خطأ الأول بثمانين بالمائة ونسبة خطأ الثاني بعشرين بالمائة فقط.

     فيخضع الأول إلى الوصف القانوني الأخف حسب الفقرة الثانية من المادة 551 رغم تحمله النسبة الأعلى من المسئولية عن حادث التصادم، في حين يتحمل الأخر الوصف الأشد حسب الفقرة الأولى من المادة 551 رغم محدودية وضالة مسئوليته عن الحادث.

    إلا أنه بالرغم من وجوب تمسك القاضي بالوصف القانوني المترتب على خطورة الإصابة اللاحقة بالشخص الأخر بالرغم من نسبة خطأه الكبير في التسبب بالحادث، إلا أن ذلك يؤخذ عملية بعين الاعتبار عند تحديد العقوبة بين حديها الأدنى والأعلى، أو عند منح الفاعل الأسباب المخففة التقديرية أو وقف التنفيذ.

    وتجدر الملاحظة أن مسألة اشتراك الفاعل في المسئولية مع المجني عليه نفسه أو مع الغير تفترض مساهمة خطأ المتضرر أو الغير مع خطأ الفاعل في إحداث النتيجة.

     أما إذا انعدم الخطأ من قبل الفاعل، وأمكن نسبة المسئولية بأكملها إلى خطأ المجني عليه أو الغير، فهذا تنتفي مسئولية الفاعل الجزائية والمدنية معاً، وتتعذر ملاحقته إلا فيما يتعلق بالمسئولية المدنية المفترضة كما سبق و أسلفنا.

  • الركن المادي في جريمة الايذاء الممقصود

    تنص المادة 540 من قانون العقوبات على أن” من أقدم قصدا على ضرب شخص أو جرحه أو إيذائه” هذا النص يحدد الركن المادي لجرائم الإيذاء أيا كانت صورتها.

    والركن المادي لجرائم الإيذاء، كغيره من الجرائم، يقوم على ثلاثة عناصر: النشاط والنتيجة والعلاقة السببية التي تربط بين النشاط والنتيجة.

    والنشاط في هذه الجرائم هو كل سلوك من شأنه المساس بسلامة الجسم.

     أما النتيجة فهي لا تثير أية صعوبة، فهي تتمثل فيما يترتب على النشاط من مساس بحق المجني عليه في سلامة جسمه، سواء كان حقه في المحافظة على الوضع الصحي الذي عليه الجسم، أو الحق في الاحتفاظ بكل أعضاء الجسم سليمة، أو الحق في التمتع بانعدام الإحساس بالألم، فكل نشاط يسبب ألما للمجني عليه تتحقق به النتيجة الجرمية ولو لم يترتب عليه مساسا بالوضع الصحي للجسم، أو مساس بأحد أعضاء الجسم، كصفعة بسيطة على الوجه أو جذب الشعر مثلاً.

    كذلك العلاقة السبية لا تثير أية صعوبة، فهي تخضع في تحديدها لذات الضوابط التي شرحناها فيما يتعلق بجرم القتل والتي حددتها المادة 203 من قانون العقوبات، والتي نلخصها بأن علاقة السببية تتوفر بين النشاط والنتيجة ولو ساهمت مع النشاط بعض العوامل المألوفة التي كان في إمكان الفاعل ومن واجبة توقعها، كمرض المجني عليه السابق، أو إهماله علاج نفسه.

    ولكن هذه العلاقة تنقطع إذا تدخل عامل لاحق للنشاط و مستقل عنه و غير مألوف في ظروف ارتكابه وكاف بحد ذاته لإحداث النتيجة، كاصطدام سيارة المجني عليه أثناء نقله إلى المستشفى أو الخطأ الجسيم من الطبيب الذي تولى علاجه أو احتراق المستشفى الذي يعالج بها.

    أما فيما يتعلق بالعنصر الأول من عناصر الركن المادي، وهو النشاط، فلقد حدد المشرع في صلب المادة 540 صورة ثلاثة له وهي: الضرب أو الجرح أو الإيذاء.

    وإن كان يمكن للمشرع، بتقديرنا، أن يستغني عن الضرب والجرح والاكتفاء بعبارة الإيذاء وحدها التي يدخل في مضمونها الضرب والجرح وغيرهما من أنواع الاعتداءات على سلامة الجسم أيا كانت صورها وطرق تنفيذها.

    ولكن ما دام المشرع قد استعمل هذه العبارات فلا بد من تحديد معانيها بدقة.

    أولا- الضرب:

    هو كل ضغط يقع على جسم المجني عليه دون أن يحدث به تمزيقاً.

     ولو لم يترتب على الضغط آثار، کاحمرار الجلد، أو ينشأ عنه أي عجز.

    وسيان أن يكون الضرب جسيمة أو بسيطة، أنتج أثر أم لم ينتج، استوجب علاجا أم لا، عطل عن العمل أم لا.

    فالضرب معاقب عليه في جميع هذه الحالات وإن حصل باليد مرة واحدة فقط.

    وسيان أن يكون الضرب أيضا باليد صفعة أو لكما، أو بالقدم، أو لوي الذراع، أو الضغط على العنق، أو الطرح أرضا، أو أن يقع باستخدام أداة في تنفيذه كالعصا أو الحجر أو غيرها. ويستوي في الضرب أن يسبب ألما للمجني عليه أو لا يسبب له ذلك، فتقع الجريمة إذا مس الفعل جسم مغمى عليه دون أن يمزق أنسجته.

    ثانيا- الجرح:

    هو تمزيق جزء من أنسجة الجسم، سواء أكان التمزيق سطحية بالجلد، أو داخليا ينال من الأنسجة التي يغطيها الجلد، أو الأعضاء الداخلية كالمعدة أو الكبد أو الرئة، أو أحد الشرايين أو الأوردة أو الأعصاب أو العظام، وسواء أن يكون التمزيق كبيرا كقطع بسكين أو ضئيلا كوخز بإبرة.

    وسواء أن ينبثق منه الدم خارج الجلد، أو ينتشر تحت الجلد فيبدو الجلد أزرق اللون، أو أن يتدفق في عمق الجسم كتمزق في المعدة أو الأمعاء.

     ويستوي أيضا أن يكون التمزيق قد سبب ألما للمجني عليه أو لا يكون كذلك، فيتحقق الجرح ولو لم يشعر المجني عليه بألم، كما لو كان مخدرا أو مغمى عليه.

    ولا أهمية لكيفية تحقق الفعل، فيستوي أن يقع التمزيق بدفع وسيلة الاعتداء نحو المجني عليه أو بدفعه هو نحوها.

    ولا أهمية أيضا للوسائل المستخدمة في التمزيق فقد يستعمل الفاعل أحد أعضاء جسمه، كركل المجني عليه بالقدم أو دفعه بقبضة اليد أو عضه، وقد يستعمل أداة كسلاح أو ألة قاطعة أو راضة أو واخذة كالسكين و العصا والحجارة والإبرة. وقد يستخدم حيوانا، كدفع كلب على عض المجني عليه.

    كما قد يستعين بقوة طبيعية كتسليط أشعة حارقة أو تيار كهربائي على المجني عليه.

    كما يستوي أخيراً أن يكون النشاط مباشرة أو غير مباشر فيقع الفعل إذا دفع الفاعل المجني عليه للمرور في طريق به حفرة فوقع بها.

    ثالثا- الإيذاء:

     قد يعتدي الفاعل على سلامة جسم المجني عليه محدث له اضطراب في صحته أو قواه البدنية أو العقلية دون أن يشكل اعتدائه ضرباً أو جرحاً. فهذه التعابير لا تشمل كل أنواع الأنشطة التي تمس السلامة الجسدية للإنسان.

    فلو سلط الفاعل على غريمه أشعة ألفت عضو من أعضائه الداخلية دون أن تحدث تمزيقا به، أو نقل إليه جرثومة بالطعام أو الشراب أو الاتصال الجنسي، أو قدم له في طعامه مادة ضارة، أو أطلق رصاصة بجواره قاصدا إز عاجه فيترتب على ذلك اضطرابه عصبية، أو وضع ملابسه مع ملابس مريض بمرض جلدي كي ينقل إليه العدوى، أو أن يبعث أصواتا غريبة في أوقات معينة بجوار غرفة نومه بقصد إيذائه فيختل جهازه العصبي.

    فلا جدال في أن كل هذه الأفعال تمس السلامة الجسدية للإنسان دون أن تعد ضرباً أو جرحاً له.

     وهذه ما حدا بالمشرع السوري إلى إيراد عبارة الإيذاء، جنبا إلى جنب مع الضرب والجرح، كي تشمل كافة صور الاعتداء على سلامة الإنسان الجسدية وتؤذيه على نحو قد يكون أشد من الضرب أو الجرح.

    كما يدخل ضمن مفهوم الإيذاء أفعال العنف الخفيفة التي يقصد بها المساس بالسلامة الجسدية مثل قص الشعر عنوة و قرص الأذن والبصق في الوجه وما إلى ذلك.

    ومن التطبيقات الطريفة لذلك في القضاء المصري أن شخصا أراد الانتقام من فتاة رفضت الزواج به، فقص شعرها وهي نائمة فقدم للمحاكمة بتهمة السرقة، لكن المحكمة طبقت القانون تطبيقا سليما فقضت باعتبار الواقعة إيذاء خفيفا”

    وتجدر الإشارة هنا أن عبارة الإيذاء يتسع معناها لجميع صور الاعتداء على سلامة الإنسان مادية كانت أو معنوية.

     فسيان أن يتجلى الاعتداء بصورة نشاط مادي ملموس كالضرب أو الجرح أو الدفع وما إلى ذلك، أو يتجلی بصورة تعذيب نفسي أو إرهاق عصبي أو قصة مفجعة أو نبأ مزعج بحيث يؤثر في صحة المجني عليه أو في قواه العقلية.

    فطبيعة فعل الاعتداء مادية أم معنوية تصلح لتكوين الركن المادي لجرم الإيذاء مع تسليمنا بصعوبة إثبات القصد الجرمي و الرابطة السببية بين النشاط المعنوي والنتيجة الضارة.

    كما تتسع عبارة الإيذاء في معناها لتشمل النشاط الإيجابي والسلبي أيضا. فالامتناع يصلح لتكوين الركن المادي الجرم الإيذاء شريطة أن يكون على الفاعل واجب قانوني أو عقدي للقيام بالفعل الذي امتنع عنه.

  • ماهي عقوبة جريمة الحمل أو المساعدة على الانتحار وما أركانها؟

    الحمل أو المساعدة على الانتحار

    لم يعتبر المشرع الحديث، على خلاف التشريعات الجزائية القديمة، الانتحار جرماً معاقباً عليه.

     فالنظرة القانونية الحديثة تعتبر أن حياة الإنسان حق من حقوقه الشخصية، له التصرف فيها دون أن يحاسبه أحد.

     وإذا كان المشرع الحديث لا يعاقب الإنسان على قتل نفسه أو إيذائه إياها، فإن موقفه يختلف تجاه الشخص الذي يحمل الغير أو يساعده على قتل نفسه.

    بعض التشريعات، كالمصري، لا يعاقب هذا الشخص باعتبار أن الانتحار هو فعل مباح، فالتحريض والمساعدة على فعل مباح يعتبر مباحأ أيضاً  بعض التشريعات الأخري  تعتبر أفعال الحمل و المساعدة على الانتحار أفعالاً غير مشروعة، بالرغم من اعتبارها مباح، كان لا بد للمشرع من إيجاد نص خاص وصريح بالمعاقبة عليها.

    وهذا ما أخذ به المشرع السوري بنص المادة 539 من قانون العقوبات، كما يلي:

    “1- من حمل إنسانا بأي وسيلة كانت على الانتحار أو ساعده بطريقة من الطرق المذكورة في المادة 218 – الفقرات أ- ب – د – على قتل نفسه، عوقب بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر إذا تم الانتحار.

     2- وعوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين في حالة الشروع في الانتحار إذا نجم عنه إيذاء أو عجز دائم.

     3- وإذا كان الشخص المحمول أو المساعد على الانتحار حدثا دون الخامسة عشرة من عمره أو معتوها طبقت عقوبات التحريض على القتل أو التدخل فيه”.

     

    من استقراء هذا النص يمكننا استخلاص النتائج التالية:

    1- أن المشرع السوري لا يجرم الانتحار بحد ذاته، ولكنه يجرم الحمل أو المساعدة عليه.

     2- أن المشرع لا يعاقب على الحمل أو المساعدة على الانتحار إلا إذا حصلت النتيجة الجرمية الضارة، وهي وفاة المنتحر أو عجزه الدائم أو إيذاءه.

     أما إذا تم فعل الحمل أو المساعدة، وأقدم المنتحر فعلا على الانتحار، إلا أن مساعيه لم تفلح، فلم يمت، ولم يصب بعجز أو إيذاء، كأن يخطى في التنفيذ أو يتدخل شخص آخر فينقذه، فلا مجال الملاحقة من حمله أو ساعده على ذلك.

     3- لا عقاب على الشروع في الحمل أو المساعدة على الانتحار.

    لأنه لا بد للعقاب من تحقق النتيجة التي استوجبها المشرع، أي الوفاة أو العجز أو الإيذاء.

     4- يستبعد تطبيق أحكام المادة 539 إذا وقع الحمل على الانتحار أو المساعدة عليه على حدث دون الخامسة عشرة من عمره أو على معتوه.

    فالشخص الذي يقوم بهذه الأفعال في هذه الحالة يعتبر فاعلا معنويا لجريمة القتل، ويطبق عليه أحكام التحريض على القتل أو التدخل فيه، ويستبعد تطبيق المادة 539.

    أركان الجريمة

    لهذه الجريمة ركنين مادي و معنوي.

    أولا- الركن المادي :

    لابد أن يتوفر في الركن المادي لهذه الجريمة أربعة عناصر:

     – النشاط الجرمي الذي يتمثل في صورة الحمل على الانتحار أو صورة المساعدة عليه.

     – النتيجة الجرمية المتمثلة في الانتحار الفعلي أو حدوث إيذاء أو عجز دائم.

     – الرابطة السببية بين النشاط و النتيجة.

    – أن يكون المجني عليه أهلا للمسئولية الجزائية.

    1– النشاط الجرمي:

     ويتجلی كما أسلفنا بصورة الحمل على الانتحار، وصورة المساعدة عليه.

    الصورة الأولى – الحمل على الانتحار .

    إن الحمل على الانتحار يعني خلق فكرة قتل النفس لدى الشخص وحمله على تنفيذها.

    وحمل شخص بأي وسيلة، مادية كانت أم معنوية، على قتل نفسه، يعني وفق المدلول اللغوي تحريضه على الانتحار.

    إلا أن المشرع لم يستخدم عبارة التحريض، لأن هذه العبارة لا تطلق، حسب المادة 216 من قانون العقوبات إلا على من حمل أو حاول أن يحمل شخص أخر بأي وسيلة كانت على ارتكاب جريمة”.

    وباعتبار أن المشرع السوري لم يعتبر الانتحار بحد ذاته جريمة، لذلك فإن المدلول القانوني لكلمة تحريض لا ينطبق هذا على الفعل المذكور.

     إضافة إلى أن الأحكام العامة للتحريض، الواردة في المادة 217، تقضي بعقاب المحرض سواء أفضى التحريض إلى نتيجة أم لم يفض.

     بخلاف الجرم الوارد في المادة 539، حيث أن حصول النتيجة الجرمية شرط لازم للعقاب فيه. فمن يحمل إنسانا أو يساعده على الانتحار لا يعاقب إلا إذا تم الانتحار أو شرع به على الأقل.

    ولا بد أن يكون فعل الحمل هو السبب في وقوع الانتحار أو الشروع فيه، أي لا بد أن تتوافر الرابطة السببية بين الانتحار والحمل عليه، أي ثبوت أنه لولا الحمل لما أقدم المجني عليه على قتل نفسه أو على الشروع فيه على الأقل.

     فلو حاول زيد أن يحمل بكرة، بأي وسيلة، على الانتحار، إلا أن ذلك لم يفض إلى نتيجة، وبعد مدة أقدم بكر على قتل نفسه لسبب أخر، فهنا تنتفي الرابطة السببية بين الانتحار وبين فعل زيد، ولم يعد هناك مجال للتجريم والعقاب.

    الصورة الثانية – المساعدة على الانتحار.

    في هذه الصورة من صور الركن المادي للجريمة لا يقوم الفاعل بخلق فكرة الانتحار لدى الشخص، وإنما تكون هذه الفكرة موجودة لدى الشخص، بيد أنه يتردد في تنفيذها، فيقوم الجاني بمساعدته على ذلك.

     وهذه المساعدة لا يعاقب عليها الفاعل إلا إذا تمثلت بإحدى الحالات الثلاث التي نصت عليها الفقرات (أ – ب – د) (9) من المادة 218 من قانون العقوبات المتعلقة بالتدخل الجرمي، وهذه الحالات الثلاث هي:

    أ- إعطاء الإرشادات :

    ومثالها إرشاد المنتحر إلى طريقة سهلة وسريعة في قتل النفس، لا ينتج عنها ألما، باستخدام سلاح ناري كوسيلة أفضل و أسرع في إزهاق الروح من استخدام السم، أو من القفز من مكان شاهق، الذي قد يسبب آلام شديدة قبل حصول الوفاة.

     ب- تشديد العزيمة:

    هذه الحالة تفترض أن المنتحر قد اتخذ قراره بقتل نفسه، إلا أنه متردد، خائف، ومتهيب منه، فيكون دور الفاعل عندئذ تقوية عزيمته وتشجيعه على الإقدام على ذلك.

     كأن يسود الحياة في مخيلة تاجر مفلس مهدد بالسجن، ويقنعه بصعوبة خروجه من مأزقه، وتعهده بإعالة عائلته، فيقوي أعصابه ويحرره من رهبة الموت.

     د- المساعدة الفعلية:

    على خلاف الحالتين السابقتين حيث تكون المساعدة فيهما معنوية، ومقتصرة على المرحلة التي تسبق الانتحار.

    فهذه الحالة تتمثل بالمساعدة المادية التي يقدمها الفاعل عند البدء بمرحلة الإعداد للانتحار أو أثناء مرحلته التنفيذية.

    فهنا يقوم الفاعل بمساعدة المنتحر على الأفعال التي هيأت الانتحار أو سهلت أو أتمت ارتكابه.

    كإعطاء المنتحر الأداة التي سيقتل نفسه بها، أو إقفال المكان الذي سيقوم المجني عليه بقتل نفسه فيه كي لا تصل إليه النجدة إلا بعد فوات الأوان، أو إحداث جلبة وضوضاء في المكان كي لا ينتبه أحد إلى المنتحر أثناء قتل نفسه.

    وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا بد في أفعال المساعدة هذه أن تبقى ذات طابع سلبي.

     أما إذا تحولت إلى أفعال ذات طابع ايجابي، فيختلف الوصف القانوني للجريمة من مساعدة على الانتحار إلى قتل مقصود.

    ومثالها أن يجبن المجني عليه عن قتل نفسه فيطلب من الفاعل المساعدة، فيقوم بقتله، بإطلاق النار عليه، أو خنقه، أو فتح ماسورة الغاز، أو دفعه من مكان مرتفع.

     فهذا نرى أن الفاعل قد تعدى دور المساعدة إلى دور التنفيذ المباشر.

    2- النتيجة الجرمية:

     يجب أن يؤدي ارتكاب إحدى صورتي الركن المادي إلى حدوث الوفاة فعلا، أو إلى حدوث إيذاء أو عجز دائم .وفي حال لم تتحقق مثل هذه النتيجة فلا عقاب .

    فحدوث النتيجة الجرمية الضارة التي أرادها الفاعل من وراء صورة الحمل أو صورة المساعدة، شرط أساسي من شروط المعاقبة وتطبيق أحكام المادة 539.

    فيفرض قيام شخص بحمل شخص أخر على قتل نفسه، وقدم له الوسيلة لذلك بعد إقناعه بها، إلا أن هذا الشخص تراجع عن تنفيذ الانتحار، بعد اقتناعه به، أو أنه أقدم فعلاً على الانتحار وتناول سماً لذلك، إلا أن الكمية كانت غير كافية إطلاقاً لإحداث الوفاة، أو حتى لتصيبه بعجز أو لتسبب له أذى، فلا عقاب في مثل هذه الحالات على الحمل أو المساعدة، وذلك لعدم تحقق النتيجة التي تطلبها النص القانوني صراحة.

    و تأكيداً لاعتبار المشرع حصول النتيجة الجرمية كشرط أساسي للعقاب، جعله من جسامة هذه النتيجة معيارا لتقدير العقوبة، دون الالتفات بذلك إلى خطورة الفعل الذاتية.

     فعند حصول الوفاة فعلا نتيجة الحمل أو المساعدة، تكون العقوبة جنائية الوصف تتراوح بين الثلاث والعشر سنوات اعتقال.

     أما إذا لم تحصل الوفاة، ونتج فقط عن الحمل أو المساعدة إيذاء أو عجز دائم، تكون العقوبة جنحية الوصف تتراوح بين الثلاثة أشهر والسنتين حبس.

    3- العلاقة السببية:

    لابد أن ترتبط النتيجة الجرمية الضارة بنشاط الفاعل ارتباط السيب بالمسبب.

    أي أن يكون الانتحار التام، أو الإيذاء أو العجز الدائم، ناتجة مباشرة عن فعل الحمل أو المساعدة، بحيث انه لولا قيام الفاعل بهذا النشاط لما قتل الشخص نفسه، أو شرع به على الأقل.

    4- أن لا يكون المجني عليه عديم المسؤولية:

     إن أهلية المنتحر هنا تعتبر عنصر من عناصر الركن المادي للجريمة، أو شرطاً مسبقاً، وليست ركن من أركانها.

     باعتبار أن غياب أحد أركان الجريمة ينفي الجريمة أصلاً، أما وجوب توفر العنصر أو الشرط المسبق يفيد قيام الجريمة وفق النموذج القانوني المطلوب، وفي حال غيابه، ينتفي قيام الجرم وفق هذا النموذج.

    فلقيام النموذج القانوني لجريمة الحمل أو المساعدة على الانتحار لا بد أن يكون المجني عليه أهلاً للمسئولية الجزائية، وفي حال انتفاء مسئوليته، يستبعد تطبيق المادة 539، أي ينتفي النموذج القانوني المطلوب هنا ويصبح الفعل معاقبة عليه وفق نموذج أخر، هو القتل البسيط أو المشدد، باعتبار أن من حمل أو ساعد وفق هذا النموذج أصبح فاعلا معنويا للجريمة.

    وقد أشارت الفقرة 3 من المادة 539 إلى هذه الحالة بصراحة، بقولها “إذا كان الشخص

    المحمول أو المساعد على الانتحار حدثا دون الخامسة عشرة من عمره أو معتوها طبقت عقوبات التحريض على القتل أو التدخل فيه”.

    بالرغم من أن هذا النص يعتريه اللبس والغموض في صياغته، سواء فيما يتعلق بعبارة ” دون الخامسة عشرة ” أو عبارة “معتوها”، ولم تكن إرادة المشرع فيه واضحة، يمكننا القول أن هذا النص يشمل الأشخاص العديمي الأهلية كالمجانين و المعاتيه، إلى جانب الأحداث الذين لم يتموا الخامسة عشرة من أعمارهم، وهذا المعنى هو الأقرب إلى الصواب والى إرادة المشرع الحقيقية.

    بذلك نستطيع أن نستخلص أنه لابد لتطبيق المادة 539 أن يقع الحمل أو المساعدة على الانتحار على شخص أتم الخامسة عشرة من عمره، وكان أهلاً للمسئولية الجزائية.

    أما إذا كان هذا الشخص لم يتم الخامسة عشرة من عمره، أو أتمها إلا أنه كان مجنوناً أو معتوها، فيستبعد تطبيق نص المادة 539، ويطبق بحق الفاعل أحكام التحريض على القتل والتدخل فيه، ويصبح من حمل أو ساعد على الانتحار، محرضاً أو متدخلا في القتل، أو فاعلاً أصلياً لجرم القتل المقصود، ويعاقب كذلك حتى ولو لم يفض التحريض أو التدخل إلى نتيجة، تبعا لنظرية الفاعل المعنوي، باعتبار أن من يحرض شخصا غير أهل للمسئولية على ارتكاب جريمة يصبح فاعلا معنويا لهذا الجرم وليس محرضا عليه.

    ثانياً – الركن المعنوي

    لا بد لقيام هذه الجريمة من توفر القصد الجرمي العام لدى من حمل أو ساعد على الانتحار. أي أن يأتي فعله عن علم وإرادة. فيجب أن ينصب علمه وإدراكه على أنه يحمل شخصاً على الانتحار أو يساعده على ذلك، وأن تتجه إرادته إلى النتيجة الجرمية الضارة، أي الانتحار. فلو أعطی زید سماً لبكر ليضعه في طعام أو شراب عمر، إلا أن بكر تناوله ومات، لا يطبق على زيد الجرم الوارد في المادة 539، الحمل أو المساعدة على الانتحار، بل يطبق عليه أحكام التحريض أو التدخل في جرم القتل.

    وجريمة الحمل أو المساعدة على الانتحار لا يمكن أن تقع غير مقصودة، استنادا للخطأ، كما لو أهمل الفاعل أو لم يتخذ الحيطة أو الحذر فترك سلاحه في مكان ظاهر فتلقفه احدهم وانتحر به.

    ولا عبرة بالباعث الذي حدا بالفاعل إلى حمل شخص أو مساعدته على قتل نفسه في قيام القصد الجرمي. فالركن المعنوي يعتبر قائما عندما يتوفر القصد الجرمي بصرف النظر عن الباعث أو الدافع الذي يعتد به فقط في تقدير العقوبة، بتشديدها إذا كان دنيئاً أو سافلاً: كما لو ساعده على الانتحار طمعاً في ماله، وبتخفيفها إذا كان شريفاً: كما الو ساعده على الانتحار معتقدا بأن وفاته ستحقق فائدة كبيرة للبشرية أو لفئة محددة من الناس.

    – عند توفر أركان الجريمة، بالشكل السالف تفصيله، يعاقب الفاعل استنادا إلى خطورة النتيجة الجرمية الحاصلة.

    فإذا أدى نشاط الفاعل إلى وفاة المنتحر عوقب الفاعل بالاعتقال من ثلاث سنوات إلى عشر سنوات.

    أما إذا أدى نشاط الفاعل إلى عجز دائم أو إيذاء فقط، يعاقب الفاعل بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين. ولا ننسى أن حصول هذه النتيجة الجرمية شرط أساسي للعقاب، ففي حال انتقائها ينتفي العقاب، بالرغم من قيام الفاعل بالنشاط الجرمي من حمل أو مساعدة على الانتحار.

    وفي حال انصب الحمل أو المساعدة على حدث لم يتم الخامسة عشرة من عمره أو على مجنون أو معتوه، فيستبعد تطبيق أحكام المادة 539، ويعاقب الشخص كفاعل معنوي لجريمة القتل سواء أدي حمله أو مساعدته إلى نتيجة أم لا.

  • ماهي نظرية تعادل الأسباب في جريمة القتل؟

    نظرية تعادل الأسباب

    هذه النظرية تعتبر أن جميع العوامل التي ساهمت في حصول النتيجة الجرمية متساوية و متعادلة، بحيث يمكن اعتبار كل واحد منها سبباً في وقوعها على السواء.

    ويتطبيق ذلك على جرم القتل يمكن القول بأن علاقة السببية تقوم بين الاعتداء والوفاة إذا ثبت أن هذا الاعتداء ساهم في إحداث الوفاة، ولو كانت مساهمة محدودة، وكانت مساهمة العوامل الأخرى أكثر أهمية منه في إحداث الوفاة.

     فلو ساهمت مع الاعتداء عوامل طبيعية كمرض سابق كان المجني عليه يعاني منه، فالرابطة السيبية تبقى قائمة بين الاعتداء والوفاة.

     وإذا ساهمت في إحداث الوفاة أفعال أخرى فعلاقة السيبية تبقى قائمة.

     فلو دس أحدهم السم لزيد بقصد قتله، وقبل أن يسري السم في جسده ويقتله، يأتي شخص ثالث ويرديه قتيلاً بعيار ناري، فالقتل بالعيار الناري لا يقطع العلاقة السببية بين دس السم والوفاة. ويبقى من دس السم مسؤولاً عن الوفاة التي حصلت.

     كما أن العوامل التي تتدخل بعد ارتكاب الاعتداء فتزيد من جسامته و تقود إلى حدوث الوفاة لا تنفي العلاقة السيبية بين الاعتداء و النتيجة.

    فخطأ الطبيب المعالج، وان كان جسيماً، أو إصابة المجني عليه بمرض لاحق، أو احتراقه في المستشفى الذي نقل إليه للعلاج، كل ذلك لا ينفي علاقة السببية بين الاعتداء والوفاة.

    إذ لولا الجرح أو الأذى الذي أحدثه الفاعل بالمجني عليه لما تفاقمت إصابته واضطر للعلاج في المستشفى، ولما قصر الطبيب في علاجه، ولما وجد في المستشفى ساعة الحريق، وبالتالي لما حصلت الوفاة.

    الواضح أن هذه النظرية توسع كثيراً من نطاق السيبية، بحيث يصبح الشخص مسؤولاً عن نتائج لم يكن باستطاعته توقعها أو تلافيها.

     وبالتالي يفضى الأخذ بهذه النظرية إلى نتائج لا يمكن التسليم بها .

    فلو كان لدى شخص سلاح وأهمل حفظه، فسرقه شخص آخر وارتكب به جريمة قتل، يكون صاحب السلاح مسؤولاً عن جريمة القتل أسوة بالقاتل ! لأنه تبعا لهذه النظرية هناك سببان في إحداث الوفاة: فعل القتل بالمسدس، وإهمال مالك المسدس بالحفاظ عليه.

     فالوفاة ما كانت لتقع لو لم يطلق الشخص العيار الناري، وكذلك لو لم يهمل صاحب السلاح في إخفائه فيسرق منه.

     فالعاملان متكافئان في إحداث الوفاة، وكل منهما يعتبر سبباً في وفاة الضحية.

  • ركن ازهاق روح الانسان في جريمة القتل

    الركن المفترض في جريمة القتل: الإنسان الحي

     

    يحمي القانون حق الإنسان في الحياة من خلال تجريمه لفعل إنهاء هذه الحياة بصورة غير مشروعة.

    وهذه الحماية تنصب على حياة كل إنسان بغض النظر عن جنسه وجنسيته ولونه ودينه ومركزه.

     والقتل لا يقع إلا على إنسان، أما إزهاق روح حيوان فلا يعد قتلا بالمعنى القانوني، وإنما يندرج تحت نموذج أخر من الجرائم، باعتباره من الجرائم الواقعة على الأموال، والمجنى عليه فيه هو مالك الحيوان.

     وحماية القانون لحياة الإنسان تبدأ منذ الولادة وتنتهي بالوفاة.

     ينبني على ذلك، أن الجنين في بطن أمه لا يعتبر إنساناً حياً صالحاً لأن يكون محلا لجرم القتل.

     فبالرغم من تمتع الجنين بالحياة، إلا أنها حياة من نوع مختلف عن الحياة التي يعتبرها المشرع في جرائم القتل، فهي حياة ” احتمالية في حين يحمي بنصوص القتل حياة يقينية”.

    يترتب على ذلك اختلاف القيمة القانونية لهذين النوعين من الحياة، ومدى الجدارة بالحماية الجزائية، و عدم اعتبار إزهاق روح الجنين في بطن أمه قتلاً، بل إدراجه تحت نموذج أخر من الجرائم، هو الإجهاض .

     إذن، فقبل الولادة يعتبر التخلص من الجنين مكوناً لجريمة الإجهاض.

     أما بعد الولادة فيعد الفعل قتلاً ما دام المولود قد ولد حياً.

     أما المرحلة التي ينتقل فيها الكائن البشري من صفة جنين إلى صفة إنسان فتبدأ منذ اللحظة التي تبدأ بها عملية الولادة، وليس من انتهاء أو تمام عملية الولادة.

     فبمجرد مفارقة الجنين لرحم أمه، وتنفسه برئتيه، يعتبر كائناً مستقلاً، ومن ثم إنساناً خاضعاً لحماية النصوص الخاصة بالقتل، حتى ولو ما زال متصلاً بأمه بالحبل السري.

    فالحبل السري هو وسيلة تغذية ينطبق عليه ما ينطبق على تغذية الوليد من حليب أمه بعد انفصاله عنها .

     إذن، منذ بدأ عملية الولادة، ومن باب أولى عند تمامها، ينتقل الكائن البشري من صفة جنين إلى صفة إنسان، تحميه نصوص القتل، ما دام قد ولد حياً، بغض النظر عن قابليته للحياة بعد ذلك .

    فإذا ثبت أنه سيموت بعد ذلك لمرض أو غيره، فذلك لا يبيح الاعتداء على حياته. و هو جدير بالحماية كذلك، ولو كان مشوهاً في خلقته أو ناقصاً في تكوينه، فهو يبقى إنسانة حياً جديرة بحماية القانون، فربما يتم التوصل إلى شفائه من عند الله تعالى، أو بتدخل طبي كأثر للتقدم العلمي.

     وعلى هذا الأساس أيضا يكون إزهاق روح مريض شفقة عليه بسبب الآلام التي يتحملها من مرض عضال أصابه، مكونا لجرم القتل، ولو تم الفعل بناء على إلحاح المريض وتلبية لرغبته في إنهاء حياته.

    وحماية القانون لحياة الإنسان منذ الولادة وحتى الوفاة تطال أيضا حياة المحكوم عليه بالإعدام.

    فالإقدام على قتل شخص محكوم بالإعدام ولو قبل دقيقة من تنفيذ الحكم الصادر بحقه، يعتبر قتلا.

     كما تطال هذه الحماية حياة من قرر الانتحار إذا طلب من أخر تنفيذ رغبته بإنهاء حياته، فقام هذا الأخر بإزهاق روحه.

     وإذا كان القانون يحمي حق الحياة في جرائم القتل، فإن وجود الحياة لدى الضحية قبل وقوع فعل الاعتداء عليه شرط أساسي لقيام جرم القتل.

    فالقتل لا يقع إلا على إنسان حي، أما إذا كان قد فارق الحياة قبل وقوع الفعل عليه، فليس هناك جريمة قتل.

    هذه المسألة تتعلق بالصورة التي يكون فيها الاعتداء قد وقع على جثة بعد أن فارقتها الروح. فلو أطلق شخص النار على أخر بنية قتله وأصابه، ثم تبين بعد ذلك أن الضحية قد فارق الحياة بسبب ذبحة قلبية قبل فعل إطلاق النار .

     أو أن يطلق الفاعل النار ليلا على سرير خصمه ظانا أنه نائم فيه، في حين أنه كان قد غادره قبل قليل.

    هذه الفرضيات تثير، في الحقيقة، مسألة الجريمة المستحيلة التي انقسم بشأنها الفكر الجزائي إلى اتجاهين.

     الأول: يأخذ بفكرة الجريمة المستحيلة، ويعتبر أن الاعتداء الواقع على ميت بقصد قتله لا يعد قتلاً ولا شروعاً في القتل، لأن الجريمة في هذه الحالة مستحيلة استحالة موضوعية مطلقة. فمحل جرم القتل يجب أن يكون إنسانا حياً، وفي هذه الفرضية انعدم هذا المحل، وبالتالي انعدمت الجريمة.

     والثاني: لا يعتد بفكرة الجريمة المستحيلة، ويعتبر أن الاعتداء الواقع على ميت بقصد قتله يعتبر شروعاً في القتل.

    والواقع أن أغلب التشريعات الجزائية، والفكر الجزائي الحديث ، ينكر ويستبعد فكرة الجريمة المستحيلة.

    والفكرة في ذلك أن العقاب يبني على أساس خطورة الفاعل.

    فعندما يقدم الفاعل على فعل يؤدي مباشرة إلى حصول الجريمة التي قصدها، فهو ينم عن شخصية خطيرة يستحق عليها العقاب.

    فما دامت الجريمة ممكنة الوقوع بنظر الفاعل بالوسيلة المستخدمة أو بالظروف التي باشر من خلالها نشاطه، فلا يهم بعد ذلك أن تكون هذه الجريمة غير ممكنة الوقوع فعلا، ما دامت أسباب عدم الوقوع خارجة عن إرادة الفاعل نفسه. فالجريمة المستحيلة، بنظر الفكر الجزائي الحديث ليست في الحقيقة سوى صورة من صور الشروع في الجريمة المنوي ارتكابها.

     وهذا ما أكده ونحاه بالفعل قانون العقوبات السوري، حيث عاقب في المادة (202) منه على الجريمة المستحيلة بمثل ما عاقب على الشروع.

     واستناداً لذلك فإن الاعتداء على جثة شخص فارق الحياة بقصد القتل، يلاحق فاعله كشارع في جرم القتل، لأنه أعرب عن خطورته من خلال الاعتداء على الضحية الذي ظنه على قيد الحياة، ولم يحل دون إتمام الجريمة التي انتواها وقام بكل ما هو ضروري لتنفيذها، سوى ظرف خارج عن إرادته، وهو وفاة الضحية بشكل مسبق.